الدروع البشرية في غزة- تحليل قانوني وأخلاقي للضحايا المدنيين

في مقالي السابق، بينت كيف استغل السياسيون والعسكريون الإسرائيليون والغربيون حجة "استخدام الدروع البشرية" كعنصر أساسي في الحرب السياسية والعسكرية على غزة. في هذا المقال، سأوضح كيف أن هذا الاستغلال السياسي للمصطلح القانوني والعسكري "الدروع البشرية" لا يبرر، من الناحيتين القانونية والأخلاقية، هذا العدد الكبير من الضحايا المدنيين الفلسطينيين.
في هذا السياق، يوجد تعبيران متطابقان لغويًا، لكنهما يشيران إلى مفهومين تاريخيين مختلفين. الأول هو "الدروع البشرية"، والثاني هو "التترس". الأول مصطلح عسكري وقانوني حديث يشير إلى جريمة حرب، بينما الثاني فقهي وصفي يتطلب حكمًا معياريًا، تختلف حوله المذاهب الفقهية تاريخيًا. استخدمت جماعات العنف التترس في العصر الحالي لتبرير إصابة المدنيين المسلمين في صراعاتها مع الأنظمة السياسية الداخلية.
يجب ألا يتحول النقاش حول "الدروع البشرية" إلى مجرد نقاش تقني أو قانوني. فالأولوية القصوى هي حماية أرواح المدنيين وتجنيبهم ويلات الحرب.
اتخاذ الدروع البشرية محظور بموجب القانون الدولي، وينطوي على أمرين:
- الأول: استخدام المدنيين مباشرة في العمليات الحربية.
- الثاني: استغلال وجود المدنيين لحماية هدف عسكري من الهجوم أو لعرقلة العمليات العسكرية للعدو.
أما التترس، فيعني أن يحتمي العدو غير المسلم بمن لا يجوز قتله (المسلمين أو أهل الذمة وفقًا للتصنيف التاريخي)، بهدف استخدامهم كحماية لصد المسلمين وتحقيق مكاسب عسكرية.
هناك عدة اختلافات جوهرية بين مفهومي الدروع البشرية والتترس:
- أولاً: يركز التترس بشكل أساسي على اتخاذ العدو غير المسلم دروعًا بشرية ممن لا يَحِل قتلهم. لذلك، انصب النقاش الفقهي التاريخي على حكم المضي قدمًا في العمل العسكري إذا كان سيؤدي إلى قتل هؤلاء الدروع البشرية (من المسلمين، أو أهل الذمة، أو حتى نساء العدو وأطفاله الذين لا يجوز قتلهم في الحرب).
ومن الجدير بالذكر أن النقاش الفقهي حول التترس يستبعد فكرة استخدام المسلمين أنفسهم كدروع بشرية، ولم يسبق للمسلمين، على حد علمنا، أن استخدموا هذه الطريقة في الحروب، بينما استخدمها غيرهم قديمًا وحديثًا.
- ثانيًا: التترس جزء من نظام ما قبل الدولة الحديثة الذي يصوغ تصوره الخاص حول من لا يجوز قتله في الحرب. بينما تتمحور فكرة الدروع البشرية حول مبدأ أساسي، وهو التمييز بين المدني والعسكري، وتوفير حماية خاصة للمدنيين أثناء الحرب. من هنا، يعتبر استخدام الدروع البشرية جريمة قانونية؛ لأنه يقضي على هذه الفروق ويهدر حرمة المدنيين الذين ليسوا طرفًا في الحرب ولا يشاركون فيها. بناءً على ذلك، فإن مفهوم "المدني" الحديث أوسع من التصورات الفقهية التقليدية لمن لا يجوز قتله في الحرب.
لننتقل الآن إلى الحرب على غزة لنتأمل ما إذا كان مفهوم "الدروع البشرية" ينطبق عليها، كما يدعي الإسرائيليون والأمريكيون وغيرهم من الأوروبيين.
ذكرنا أن المعنى القانوني للدروع البشرية يشمل أمرين: الأول هو "استخدام" المدنيين في الحرب لتحقيق أهداف عسكرية، والثاني هو "الاستفادة" من المدنيين في الحرب.
إن "الاستخدام"، وهو المعنى الأول، يمكن إثباته بوضوح، ولم يثبت أن حماس قامت به. لكن ثبت أن إسرائيل قامت به عشرات المرات، كما أوضحت في مقالي السابق، وهذا عمل مجرم بموجب القانون الدولي.
أما "الاستفادة" من المدنيين -وهي المعنى الثاني- فمن الصعب إثباتها في حالة غزة للأسباب الآتية:
- أولاً: نحن أمام حرب شنتها إسرائيل على قطاع مدني ذي كثافة سكانية عالية جدًا، ويصعب تطبيق شرط تجنب وضع أهداف عسكرية داخل مناطق مأهولة بالسكان.
- ثانيًا: هذه الحرب هي حرب من طرف واحد، بين جيش نظامي محتل وحركة مقاومة وطنية لا تملك صفة "الدولة" ولا صفة "الجيش". لذلك، فهي غير قادرة على اتخاذ الاحتياطات اللازمة لحماية المدنيين والأهداف المدنية من الهجمات.
- ثالثًا: هذه "الاستفادة" من المدنيين في غزة ليست خيارًا، بل هي جزء من طبيعة المكان والسياق. طبيعة الاحتلال والجغرافيا والحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع كلها عوامل فرضت استراتيجية المقاومة.
بالإضافة إلى ذلك، تقع شبكة الأنفاق المستخدمة في هذه المقاومة خارج المفهوم القانوني التقليدي لـ "تمركز وحدات عسكرية مقاتلة في مناطق مأهولة بالمدنيين". بالتالي، لا يمكن الحديث عن "وضع أهداف عسكرية داخل أو بالقرب من مناطق مكتظة بالسكان"؛ لأن التصورات التقليدية للحروب بين الدول تختلف عن حالة قطاع غزة واستراتيجية المقاومة التي تستخدم الأنفاق. لا يمكن هنا الحديث عن وضع أهداف عسكرية على الأرض في مناطق مدنية.
يجب إضافة بُعد آخر لمفهوم الاستفادة من المدنيين، وهو تمويه الهدف أو تغيير مظهره من مدني إلى عسكري أو العكس. لقد فعلت إسرائيل ذلك عدة مرات عندما قصفت المستشفيات ودمرتها بشكل متكرر؛ بحجة أنها أهداف عسكرية، وهو ما لم يثبت حتى الآن!
توضح الاعتبارات الثلاثة السابقة تعقيدات تطبيق مفهوم "الدروع البشرية" على حالة غزة من الناحية القانونية. كما توضح لماذا لا يحق لإسرائيل الدفاع عن نفسها من الناحيتين القانونية والأخلاقية، وهو ما فصلته في مقال سابق.
الشروط الموضوعة لتجنيب المدنيين الحرب وضعت لظروف طبيعية، وفرضت مسؤوليات على الدول بشكل رئيسي. لكن حالة غزة فريدة من نوعها؛ فهي أرض خاضعة للاحتلال والحصار معًا، ولا توجد فيها دولة ولا قتال نظامي، كما أنها صغيرة المساحة وذات كثافة سكانية عالية. هذه الاعتبارات مهمة في تحقيق المتطلبات اللازمة لحماية المدنيين من آثار الحرب، وفي إمكانية الامتثال لها.
يجب ألا يتحول النقاش حول "الدروع البشرية" إلى مجرد نقاش تقني أو قانوني؛ فالقيمة الأساسية هنا هي صيانة أرواح المدنيين وتحييدهم عن ويلات الحرب. غالبية ضحايا الحرب الإسرائيلية على غزة هم من المدنيين، وخاصة الأطفال والنساء، ولا يمكن تبرير ذلك بحجة استخدام حماس لهؤلاء كدروع بشرية، وذلك للأسباب الرئيسية التالية:
السبب الأول: الهدف الأساسي لحماية المدنيين في الحروب
سعى القانونيون، من خلال الاتفاقيات القانونية الصادرة في هذا الشأن، إلى تحقيق هدف واحد وهو حماية المدنيين وتحييدهم أثناء الحرب، وفي جميع الأوقات ومن قبل جميع الأطراف. يمكن العثور على هذا المعنى في جميع الاتفاقيات، بدءًا من اتفاقية لاهاي لعام 1907 (المادة 23)، التي شهدت أول قانون دولي بشأن مسألة الدروع البشرية والمدنيين، مرورًا بقانون إخلاء الأسرى من مناطق النزاع عام 1929، وصولًا إلى القوانين الدولية الأخرى الصادرة في هذا الشأن، مثل اتفاقية جنيف لعام 1949 والبروتوكول الإضافي لعام 1977 ومعاهدة روما لعام 1998.
ولتأكيد أن حماية المدنيين هي الهدف الرئيسي، من المهم ملاحظة أمرين: أولهما: أن هذه القوانين جاءت على خلفية الانتهاكات بحق المدنيين التي شهدتها الحروب السابقة، وخاصة الحرب العالمية الثانية. وثانيهما: الحرص على تحديد مفهوم "المدني" لحمايته ومنع أي اعتداءات متعمدة عليه، ولتحديد وصف الجريمة قانونيًا في حال وقوعها.
المدني هو غير المقاتل أو من لا يقدم الدعم العسكري في ميدان المعركة. يجب توضيح أن المدنيين، من الناحية القانونية، يفقدون حصانتهم من الهجمات إذا شاركوا مباشرة في الأعمال العدائية، وخلال هذه المشاركة فقط، وذلك استنادًا إلى مبدأي حصانة المدنيين والتمييز بين المدنيين والعسكريين.
توضح إرشادات "اللجنة الدولية للصليب الأحمر" أن قوانين الحرب تميز أيضًا بين أفراد القوات المقاتلة المنظمة التابعين لطرف غير تابع للدولة، والمقاتلين بدوام جزئي. يمكن استهداف الفئة الأولى في الحرب، ما لم يتم أسرهم أو إصابتهم بالعجز، بينما يعتبر أفراد الفئة الثانية مدنيين ولا يمكن استهدافهم إلا عندما يشاركون مباشرة في الأعمال العدائية وخلال تلك المشاركة فقط وليس بعدها. أما الأفراد الاحتياطيون في الجيوش الوطنية فهم، وفقًا للتعريف القانوني، مدنيون ما لم يلتحقوا بالخدمة، وفي هذه الحالة فقط يصبحون مقاتلين ويمكن استهدافهم.
السبب الثاني: الحفاظ على مبدأ الفصل بين المدنيين والعسكريين
إن تجريم اتخاذ الدروع البشرية في الحرب يعود إلى كونه ينطوي على أفعال محرمة من الناحيتين الأخلاقية والقانونية، ويمكن تلخيصها في ثلاثة أمور: أولها: أن اتخاذ الدرع البشري ينطوي على استخدام المدنيين كأداة من أدوات الحرب. ثانيها: أنه ينطوي على استغلال أحد الطرفين لقوانين الحرب (حصانة المدنيين)؛ لتحقيق نصر عسكري بوسائل غير عسكرية من خلال استغلال أهداف مدنية. ثالثها: أن استخدام المدنيين في الحرب سيجعلهم عرضة للقتل وجزءًا من أدوات المعركة، وهذا سيؤدي إلى إلغاء الفارق بين المدني والعسكري، وبالتالي سيتم التضحية بالمبدأ الأساسي الذي يضبط الحروب، وهو التمييز بين المدني والعسكري.
ولكن لنفترض أن التدرع بالمدنيين قد وقع بالفعل من أحد الطرفين، فهل يسوغ ذلك قتل الدروع؟ هنا تم تضليل الإسرائيليين والأمريكيين في هذه المسألة. بالإضافة إلى أن تطبيق فكرة "الدروع البشرية" على حالة غزة أمر مشكوك فيه من الناحيتين الأخلاقية والقانونية، فإنه، على افتراض أننا سلمنا بوجود استخدام للدروع البشرية، توجد اعتبارات أخرى يجب تحقيقها وتلزم الطرف الآخر في الحرب، وهي:
- أولاً: لا يتحقق مبدأ المعاملة بالمثل هنا؛ فانتهاك أحد الطرفين للقانون لا يبرر انتهاكه من الطرف الآخر. انتهاك المبدأ من طرف واحد لا يعفي الخصوم والأطراف الأخرى من التزاماتهم القانونية؛ لأن تبرير ذلك يعني إلغاء مبدأ التمييز بين المدنيين وغيرهم.
- ثانيًا: إن استخدام أحد الطرفين للدروع البشرية لا يبيح تعمد استهداف الدروع أولاً. والواقع أن هناك تعمدًا لقتل المدنيين (أو ما يقع موقع العمد)؛ لأن العمل العسكري يجري في مناطق سكانية كثيفة، ويقع على أهداف ومنشآت مدنية وبأسلحة فتاكة ذات تدمير شامل. لهذا، لا يمكن الحديث هنا عن الضحايا المدنيين في غزة باعتبارهم "أضرارًا جانبية"، كما ذكرت في مقال سابق خصصته لهذا المفهوم.
ثم إن استخدام الدروع البشرية المزعوم لا يعفي من مراعاة مبدأ "التناسب" بين الهدف العسكري وحق الدفاع عن النفس، حتى لو سلمنا بأن لإسرائيل هذا الحق، وهو أمر غير صحيح، كما أوضحت في مقال سابق عن "حق الدفاع عن النفس". لا يمكن تبرير قتل نحو 22 ألف شخص، وجرح عشرات الآلاف، وتدمير مناطق سكنية واسعة، بل نحن أمام جرائم حرب واضحة وجلية.
السبب الثالث: المسؤولية المشتركة
حتى على افتراض استخدام حماس لدروع بشرية في هذه الحرب، فإن الاتفاقيات القانونية تتحدث عن مسؤوليات مشتركة في الحرب. توجد مادتان في البروتوكول الأول الملحق باتفاقيات جنيف، وتحديدًا المادتان 57 و58. تحدد الأولى "احتياطات المهاجم في قرار الاستهداف"، بينما تحدد الثانية "التزامات المدافع بإبعاد المدنيين والأهداف المدنية عن مناطق العمليات العسكرية"، وكلتا المادتين تحددان معايير الاستهداف أو قرارات العمليات القتالية للامتثال للمبدأ الأساسي، وهو التمييز بين المدنيين والعسكريين، وهو واجب على الأطراف المتحاربة في جميع الأوقات.
بناءً على ذلك، لا يمكن اختزال المسألة في إلقاء اللوم على من اتخذ الدروع البشرية المزعومة دون مساءلة أفعال الطرف العسكري الذي قتل نحو 22 ألف مدني؛ بحجة أنهم كانوا دروعًا بشرية.
صحيح أنه يجب على الجميع تجنب وضع أهداف عسكرية داخل مناطق مأهولة بالسكان أو بالقرب منها، ولكن يجب على الطرف المهاجم أيضًا اتخاذ الاحتياطات اللازمة لحماية المدنيين والأهداف المدنية الواقعة تحت سيطرة الطرف الآخر من مخاطر العمليات العسكرية، وهو ما لم تفعله إسرائيل على الإطلاق.
تشمل تلك الاحتياطات، على سبيل المثال، إجلاء المدنيين، وتنسيق خدمات الطوارئ، واتخاذ تدابير الدفاع المدني أو إصدار تحذيرات أو ما شابه ذلك.
اكتفت إسرائيل بالذرائع وإرسال رسائل تحذيرية تطلب تهجير الفلسطينيين، وفي الوقت نفسه قطعت الإنترنت والكهرباء ومنعت المساعدات الإنسانية والطبية ولم توفر طرقًا آمنة ولا ملاجئ ولا خدمات طوارئ، على الرغم من أن كل ذلك واجب عليها بصفتها قوة احتلال قبل أن توجبه قوانين الحرب!
